الأســــــود
ـــــــــــــــــــــــــــ
لم يكن ليتركه أبدا بفعلته ، تأججت النار في جسده ، لدرجة أن ظهره انبعج إلى أعلى كأنه قوس مشدود.. أخذ يرقب ما يحدث بعينيه الحادتين ، ولهيب مستعر ينطلق منهما .
تلفح بظلمة الليل الحالكة في زاوية الشارع ، وقد ستره رداؤه الشبيه بتلك الظلمة .. منع نفسه من إصدار أي حركة ، أو صوت ينم عن وجوده .. رغم جسده الفائر بالغضب والحقد ،على هذا المعتدي الأثيم .
كانت له ذكريات معها رائعة .. يلهوان معا وهما صغيران على أسطح البيوت ، ويتنقلان من سطح إلى آخر ، وقد انتشيا من السعادة .. عندما تبدو الرهبة على وجهها وتطل من عينيها الجميلتين .. يصيح بها مشجعا :
ـ كوني شجاعة .. يجب أن يكون لنا السبق على الجميع في القفز الطويل والعالي .
كان يؤثرها على نفسه ، فيعطيها ما حصل عليه من طعام ، مع اشتهائه له .. حتى ضمر جسده .. لمح في عيون خصومه ، نظرة شامتة فطالما أرهبهم ، ونال منهم في معارك كثيرة .. رسمت معالمها على أجسادهم .
كان الرعب يتملكهم ، عندما يأتي كعفريت حمل على بساط الريح .. مجرد نظره منه ، يختفون في شقوق الجدران ، أو بين أكوام القمامة . حتى خصمه هذا كثيرا ما قفز داخل سلة القمامة ، وقد جبن عن مواجهته ، بعدما أوجعه ضربا منذ فترة من أجلها ، وكاد أن يكسر له عنقه وظل يصعره لعدة أيام .
أصاخ سمعه للحديث الهامس بينهما ، وهما يتناجيان بعبارات الحب .. سمعها تقول له في دلال ، وهي تتمسح به :
ـ نعم أحبك .. فلم أحبه يوما .
كشر عن أنيابه ، وهو يهتف في نفسه ثائرا :
ـ الخائنة .. ستدفع الثمن غاليا .
لقد قالت له نفس العبارة ، ويبدو أن تلك العبارة هي مقولتها الأثيرة إلى نفسها .. انتفض وكاد ينقض على غريمه ، لكنه حاول أن يتمالك نفسه وهو يقول :
ـ لم تحن لحظة الانتقام بعد .
كان قلبه لا يزال ينبض بحبها ، فهي لازالت أجملهن وأرقهن على الإطلاق ، مع معرفته أنها جبلت على الطمع و الأنانية .. لكن كل هذا يهون أمام فتنتها .
بددت عيناه الحادتان حلكة الليل ،كأنها شمس الظهيرة ، فرآهما وهما ينطلقان حتى وصلا آخر الشارع .. ثم اختفيا في أحد البيوت القديمة .
انطلق وراءهما بخفة ليس لها نظير .. وقف أمام البوابة الحديدية المتآكلة للبيت ، وهو يصيخ سمعه ، وينظر حوله ، وقد تزايد الشرر المنطلق من عينيه ،حتى أضاء البقعة التي يقف فيها .. سمع صوت صرير باب يفتح ، ثم يغلق مرة أخرى .. فعرف أن صاحبة الدار في استقبالهما ، وأنها تتستر عليهما .. فالكل يعرف أنها تعامل خصمه كابن لها .
كاد صوته يرتفع بالصياح ، ليصب جام غضبه على هذه السيدة :
ـسوف تدفع الثمن غاليا .. لتسترها عليه ، رغم معرفتها ، ومعرفة أهل الحي بخيانته لي مع حبيبتي .
لم يعد يطيق صبرا ، وهو يصعد عدة سلالم دفعة واحدة .. في ثوان كان في الدور الثالث يقف أمام الباب المغلق .
أخذ يدير نظره حوله بسرعة .. رأى النافذة المواربة القريبة من السقف .. استطاع أن يقدر المسافة بحنكة ، وهو يقفز ويقف على إطارها .. دفعها دفعة خفيفة برأسه ، واستطاع الولوج خلالها برشاقة ، ثم الهبوط على الأرض دون صوت ، متفاديا الأواني الكثيرة المبعثرة على أرض المطبخ الضيق .
عرف أنهما كانا يعيثان في المطبخ فسادا ، وزاد من ألمه ، أن صاحبة الدار تركتهما يفعلان ذلك ، دون أن يصدر عنها ما ينم عن غضبها .. أخذ يتشمم إحدى الأواني، وقد انطرح غطاؤها بالقرب منها .. عرف أنها كانت تحوي لحما ، وتيقن أن خصمه اختلسها من أجلها .
تقدم ببطء .. وقف خلف ستار يسترق البصر ، وينصت السمع .. استطاع أن يسمع همسهما داخل إحدى الحجرات ، دون أن يميز ما يقولان .. فجأة فتح باب حجرة أخرى ، وظهرت صاحبة الدار متدثرة بغطاء صوفي .. فتحت الحجرة المغلقة ، وصاحت بنبرة فيها تدليل أكثر من الوعيد :
ـ اغلقتما الباب ، لتأكلا اللحم وحدكما .
ثم اتجهت إلى حجرتها ، وعلى وجهها طيف ابتسامة .. انتهز الفرصة ، واقترب من الحجرة أكثر .. استطاع أن يراهما أسفل الفراش .. كانت راقدة على الأرض بدلال تلتهم قطعة كبيرة من اللحم ، بينما كان الآخر يتمسح بها .
غلى الدم في عروقه ، وهو يراه يقترب منها أكثر .. فاندفع في وثبة واحدة ، ونزع خصمه من تحت السرير .. هجم عليه وغرس أسنانه في رقبته ، ونشب أظافره الحادة في بطنه .. حاول المسكين أن يفلت منه ، وهو يصرخ في صوت يشبه العويل .. جعل صاحبة البيت ، تنهض فزعة من فراشها ،وتصرخ مستغيثة :
ـ بيسو .. بوسي .
لمحته كقطعة من الليل ، وهو يقفز كالشبح فوق سياج الشرفة ، بعد أن فتح ضلفتيها على مصراعيهما بأحد قدميه الأمامية .. تجمدت في مكانها عندما رأت بيسو يقف على طرف السياج ، وهو يلوي عنقه بقسوة ، ثم يدفعه بشراسة إلى أسفل .
ترددت صرختها الملتاعة ، وامتزج معها صوت ارتطام خشن على الأرض .. في اللحظة التالية فتحت عدة نوافذ ، وتسرب منها أضواء .. ليبدو جسد بيسو المدد دون حراك .. ثم الأسود هو ينطلق كالريح ، ويختفي عن أنظارهم بغتة كأنه أحد الأشباح .
/